فصل: قال البقاعي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآية رقم (285):

قوله تعالى: {آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

.قال البقاعي:

وأما مناسبتها لأول السورة ردًا للمقطع على المطلع فهو أنه لما ابتدأ السورة بوصف المؤمنين بالكتاب الذي لا ريب فيه على الوجه الذي تقدم ختمها بذلك بعد تفصيل الإنفاق الذي وصفهم به أولها على وجه يتصل بما قبله من الأوامر والنواهي والاتصاف بأوصاف الكمال أشد اتصال، وجعل رأسهم الرسول عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام تعظيمًا للمدح وترغيبًا في ذلك الوصف فأخبر بإيمانهم بما أنزل إليه بخصوصه وبجميع الكتب وجميع الرسل وبقولهم الدال على كمال الرغبة وغاية الضراعة والخضوع فقال استئنافًا لجواب من كأنه قال: ما فعل من أنزلت عليه هذه الأوامر والنواهي وغيرها؟ {آمن الرسول} أي بما ظهر له من المعجزة القائمة على أن الآتي إليه بهذا الوحي ملك من عند الله سبحانه وتعالى كما آمن الملك به بما ظهر له من المعجزة الدالة على أن الذي أتى به كلام الله أمره الله سبحانه وتعالى بإنزاله فعرفه إشارة إلى أنه أكمل الرسل في هذا الوصف باعتبار إرساله إلى جميع الخلائق الذين هم لله سبحانه وتعالى، وأنه الجامع لما تفرق فيهم من الكمال، وأنه المخصوص بما لم يعطه أحد منهم من المزايا والأفضال {بما أنزل إليه} أي من أن الله سبحانه وتعالى يحاسب بما ذكر وغير ذلك مما أمر بتبليغه ومما اختص هو به ورغب في الإيمان بما آمن به بقوله: {من ربه} أي المحسن إليه بجليل التربية المزكي له بجميل التزكية فهو لا ينزل إليه إلا ما هو غاية في الخير ومنه ما حصل له في دنياه من المشقة.
قال الحرالي: فقبل الرسول هذا الحساب الأول العاجل الميسر ليستوفي أمره منه وحظه في دنياه، قال صلى الله عليه وسلم لما قالت له فاطمة رضي الله تعالى عنها عند موته: واكرباه!: «لا كرب على أبيك بعد اليوم». وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو نعيم في الحلية عن أنس رضي الله تعالى عنه: «ما أوذي أحد في الله ما أوذيت». فنال حظه من حكمة ربه في دنياه حتى كان يوعك كما يوعك عشرة رجال، وما شبع من خبز بر ثلاثًا تباعًا عاجلًا حتى لقي الله؛ وكذلك المؤمن لا راحة له دون لقاء ربه ولا سجن عليه بعد خروجه من دنياه، «الحمى حظ كل مؤمن من النار». انتهى.
ولما أخبر عن الرأس أخبر عمن يليه فقال: {والمؤمنون} معبرًا بالوصف الدال على الرسوخ أي آمنوا بما ظهر لهم من المعجزة التي أثبتت أنه كلام الله سبحانه وتعالى بما دلت على أن الآتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولما أجمل فصل فقال مبتدئًا: {كل} أي منهم.
قال الحرالي: فجمعهم في كلية كأن قلوبهم قلب واحد لم يختلفوا، لأن القبول واحد والرد يقع مختلفًا- انتهى.
ثم أخبر عن ذلك المبتدأ بقوله: {آمن بالله} أي لما يستحقه من ذلك لذاته لما له من الإحاطة بالكمال {وملائكته} الذين منهم النازلون بالكتب، لأن الإيمان بالمنزل يستلزم ذلك {وكتبه} أي كلها {ورسله} كلهم، من البشر كانوا أو من الملائكة، فإن فيما أنزل إليه صلى الله عليه وسلم الإخبار بذلك.
قال الحرالي: انقيادًا لامتثال من البشر.
ولما كان في الناس من يؤمن ببعض الأنبياء ويكفر ببعض قال مؤكدًا لما أفهمته صيغة الجمع المضاف من الاستغراق أي قالوا: {لا نفرق} كما فعل أهل الكتاب وعبر بما يشمل الاثنين فما فوقهما فقال: {بين أحد} أي واحد وغيره {من رسله} أي لا نجعل أحدًا منهم على صفة الفرقة البليغة من صاحبه في ذلك بل نؤمن بكل واحد منهم، والذي دل على تقدير قالوا دون غيره أنه لما أكمل قولهم في القوة النظرية الكفيلة باعتقاد المبدأ أتبعه قولهم في القوة العملية الكائنة في الوسط عطفًا عليها: {وقالوا سمعنا} أي بآذان عقولنا كل ما يمكن أن يسمع عنك وعلمناه وأذعنا له {وأطعنا} أي لكل ما فيه من أمرك.
قال الحرالي: فشاركوا أهل الكتاب في طليعة الإباء وخالفوهم في معاجلة التوبة والإقرار بالسمع والطاعة فكان لهؤلاء ما للتائب وعلى أولئك ما على المصر- انتهى.
ولما كان الإنسان محل الزلل والنقصان أشاروا إلى ذلك تواضعًا منهم كما هو الأولى بهم لمقام الألوهية فقالوا مع طاعتهم معترفين بالمعاد: {غفرانك} أي اغفر لنا أو نسألك غفرانك الذي يليق إضافته إليك لما له من الكمال والشرف والجلال ما قصرنا فيه ولا تؤاخذنا به فإنك إن فعلت ذلك هلكنا، والحاصل أنهم طلبوا أن يعاملهم بما هو أهله لا بما هم أهله فجرى بما جراهم عليه في قوله: {فيغفر لمن يشاء}.
قال الحرالي: فهذا القول من الرسول صلى الله عليه وسلم كشف عيان، ومن المؤمنين نشء إيمان، ومن القائلين للسمع والطاعة قول إذعان، فهو شامل للجميع كل على رتبته- انتهى.
وزادوا تملقًا بقولهم: {ربنا} ذاكرين وصف الإحسان في مقام طلب الغفران.
قال الحرالي: وهو خطاب قرب من حيث لم يظهر فيه أداة نداء، ولم يجر الله سبحانه وتعالى على ألسنة المؤمنين في كتابه العزيز نداء بُعد قط؛ والغفران فعلان صيغة مبالغة تعطي الملء ليكون غفرًا للظاهر والباطن وهو مصدر محيط المعنى نازل منزلة الاستغفار الجامع لما أحاط به الظاهر والباطن مما أودعته الأنفس التي هي مظهر حكمة الله سبحانه وتعالى التي وقع فيها مجموع الغفران والعذاب {فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء} ففي ضمنه بشرى بتعيين القائلين المذعنين ومن تبعهم بالقول لحال المغفرة، لأن هذه الخواتيم مقبولة من العبد بمنزلة الفاتحة لاجتماعهما في كونهما من الكنز الذي تحت العرش، وعلى ما ورد من قوله: «حمدني عبدي» إلى أن قال: «ولعبدي ما سأل» وعلى ما ورد في دعاء هذا الختم في قوله: «قد فعلت قد فعلت» وبما ابتدأ تعالى به آية هذا الحساب وختمها به من سلب الأمر أولًا وسلب القدرة عما سواه آخرًا، وكان في الابتداء والختم إقامة عذر القائلين، فوجب لهم تحقق الغفران كما كان لأبيهم آدم حيث تلقى الكلمات من ربه- انتهى.
ولما كان التقدير بما أرشد إليه {ربنا} فإنه منك مبدأنا، عطف عليه قوله حثًا على الاجتهاد في كل ما أمر به ونهى عنه على وجه الإخلاص: {وإليك} أي لا إلى غيرك {المصير} أي مطلقًا لنا ولغيرنا.
وقال ابن الزبير: ولما بين سبحانه وتعالى أن الكتاب هو الصراط المستقيم ذكر افتراق الأمم كما يشاء وأحوال الزائغين والمتنكبين تحذيرًا من حالهم ونهيًا عن مرتكبهم وحصل قبيل النزول بجملته وانحصار التاركين وأعقب بذكر ملتزمات المتقين وما ينبغي لهم امتثاله والأخذ به من الأوامر والأحكام والحدود وأعقب ذلك بأن المرء يجب أن ينطوي على ذلك ويسلم الأمر لمالكه فقال سبحانه وتعالى: {آمن الرسول بما أنزل} فأعلم أن هذا إيمان الرسول ومن كان معه على إيمانه وأنهم قالوا: {سمعنا وأطعنا} لا كقول بني إسرائيل.
{سمعنا وعصينا} [البقرة: 93] وأنه أثابهم على إيمانهم رفع الإصر والمشقة والمؤاخذة بالخطأ والنسيان فقال: {لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها}، فحصل من هذه السورة بأسرها بيان الصراط المستقيم على الاستيفاء والكمال أخذًا وتركًا وبيان شرف من أخذ به وسوء حال من تنكب عنه.
وكان العباد لما علموا {اهدنا الصراط المستقيم} [الفاتحة: 6]- إلى آخر السورة قيل لهم: عليكم بالكتاب- إجابة لسؤالهم؛ ثم بين لهم حال من سلك ما طلبوا فكان قيل لهم: أهل الصراط المستقيم وسالكوه هم الذين بيّن شأنهم وأمرهم، والمغضوب عليهم من المتنكبين هم اليهود الذين بين أمرهم وشأنهم، والضالون هم النصارى الذين بيّن أمرهم وشأنهم؛ فيجب على من رغب في سلوك الصراط المستقيم أن يحذر ما أصاب هؤلاء مما نبه عليه وأن يأخذ نفسه بكذا وكذا وأن ينسحب إيمانه على كل ذلك، وأن يسلم الأمر لله الذي تطلب منه الهداية، ويتضرع إليه بأن لا يؤاخذه بما يثمره الخطأ والنسيان، وأن لا يحمله ما ليس في وسعه، وأن يعفو عنه- إلى آخر السورة؛ انتهى. اهـ.

.قال ابن عاشور:

قال الزجاج: لما ذكر الله في هذه السورة أحكامًا كثيرةً، وقصصًا، ختمها بقوله: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه} تعظيمًا لنبيّه صلى الله عليه وسلم وأتباعه، وتأكيدًا وفذلكة لجميع ذلك المذكور من قبل.
يعني: أنّ هذا انتقال من المواعظ، والإرشاد، والتشريع، وما تخلّل ذلك: ممّا هو عون على تلك المقاصد، إلى الثناء على رسوله والمؤمنين في إيمانهم بجميع ذلك إيمانًا خالصًا يتفرّع عليه العمل؛ لأنّ الإيمان بالرسول والكتاب، يقتضي الامتثالَ لما جاء به من عمل.
فالجملة استئناف ابتدائي وضعت في هذا الموقع لمناسبة ما تقدم، وهو انتقال مؤذن بانتهاء السورة لأنّه لما انتقل من أغراض متناسبة إلى غرض آخر: هو كالحاصل والفذلكة، فقد أشعر بأنّه استوفى تلك الأغراض. اهـ.

.قال الفخر:

في كيفية النظم وجوه:
الأول: وهو أنه تعالى لما بيّن في الآية المتقدمة كمال الملك، وكمال العلم، وكمال القدرة لله تعالى، وذلك يوجب كمال صفات الربوبية أتبع ذلك بأن بين كون المؤمنين في نهاية الانقياد والطاعة والخضوع لله تعالى، وذلك هو كمال العبودية وإذا ظهر لنا كمال الربوبية، وقد ظهر منا كمال العبودية، فالمرجو من عميم فضله وإحسانه أن يظهر يوم القيامة في حقنا كمال العناية والرحمة والإحسان اللّهم حقق هذا الأمل.
الوجه الثاني في النظم: أنه تعالى لما قال: {وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ الله} [البقرة: 284] بين أنه لا يخفى عليه من سرنا وجهرنا وباطننا وظاهرنا شيء ألبتة، ثم إنه تعالى ذكر عقيب ذلك ما يجري مجرى المدح لنا والثناء علينا، فقال: {آمن الرسول بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبّهِ والمؤمنون} كأنه بفضله يقول عبدي أنا وإن كنت أعلم جميع أحوالك، فلا أظهر من أحوالك، ولا أذكر منها إلا ما يكون مدحًا لك وثناء عليك، حتى تعلم أني كما أنا الكامل في الملك والعلم والقدرة، فأنا الكامل في الجود والرحمة، وفي إظهار الحسنات، وفي الستر على السيئات.
الوجه الثالث: أنه بدأ في السورة بمدح المتقين الذين يؤمنون بالغيب، ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون، وبيّن في آخر السورة أن الذين مدحهم في أول السورة هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فقال: {والمؤمنون كُلٌّ آمَنَ بالله وَمَلَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ} وهذا هو المراد بقوله في أول السورة {الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب} [البقرة: 3].
ثم قال هاهنا {وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} وهو المراد بقوله في أول السورة {وَيُقِيمُونَ الصلاة وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ}.
ثم قال هاهنا {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المصير} وهو المراد بقوله في أول السورة {وبالأخرة هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة: 4] ثم حكى عنهم هاهنا كيفية تضرعهم إلى ربهم في قولهم: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] إلى آخر السورة وهو المراد بقوله في أول السورة {أولئك على هُدًى مّن رَّبّهِمْ وأولئك هُمُ المفلحون} [البقرة: 5] فانظر كيف حصلت الموافقة بين أول السورة وآخرها.
والوجه الرابع: وهو أن الرسول إذا جاءه الملك من عند الله، وقال له: إن الله بعثك رسولًا إلى الخلق، فههنا الرسول لا يمكنه أن يعرف صدق ذلك الملك إلا بمعجزة يظهرها الله تعالى على صدق ذلك الملك في دعواه ولولا ذلك المعجز لجوز الرسول أن يكون ذلك المخبر شيطانًا ضالًا مضلًا، وذلك الملك أيضًا إذا سمع كلام الله تعالى افتقر إلى معجز يدل على أن المسموع هو كلام الله تعالى لا غير، وهذه المراتب معتبرة أولها: قيام المعجز على أن المسموع كلام الله لا غيره، فيعرف الملك بواسطة ذلك المعجز أنه سمع كلام الله تعالى وثانيها: قيام المعجزة عند النبي صلى الله عليه وسلم على أن ذلك الملك صادق في دعواه، وأنه ملك بعثه الله تعالى وليس بشيطان وثالثها: أن تقوم المعجزة على يد الرسول عند الأمة حتى تستدل الأمة بها على أن الرسول صادق في دعواه فإذن لما لم يعرف الرسول كونه رسولًا من عند الله لا تتمكن الأمة من أن يعرفوا ذلك، فلما ذكر الله تعالى في هذه السورة أنواع الشرائع وأقسام الأحكام، قال: {آمن الرسول} فبيّن أن الرسول عرف أن ذلك وحي من الله تعالى وصف إليه، وأن الذي أخبره بذلك ملك مبعوث من قبل الله تعالى معصوم من التحريف، وليس بشيطان مضل، ثم ذكر إيمان الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك، وهو المرتبة المتقدمة، وذكر عقيبه إيمان المؤمنين بذلك وهو المرتبة المتأخرة، فقال: {والمؤمنون كُلٌّ آمَنَ بالله} ومن تأمل في لطائف نظم هذه السورة وفي بدائع ترتيبها علم أن القرآن كما أنه معجز بحسب فصاحة ألفاظه وشرف معانيه، فهو أيضًا معجز بحسب ترتيبه ونظم آياته ولعلّ الذين قالوا: إنه معجز بحسب أسلوبه أرادوا ذلك إلا أني رأيت جمهور المفسرين معرضين عن هذه اللطائف غير متنبهين لهذه الأمور، وليس الأمر في هذا الباب كما قيل:
والنجم تستصغر الأبصار رؤيته ** والذنب للطرف لا للنجم في الصغر

ونسأل الله تعالى أن ينفعنا بما علمنا، ويعلمنا ما ينفعنا به بفضله ورحمته. اهـ.